البحر المحيط للإمام محمد بدر الدين الزركشي - الفقيه الأصولي المحدث المحرر الشافعي مذهبا الملقب "بالمنهجي" لأنه حفظ منهاج الطالبين للنووي في صغره - يكاد يعد نهاية المطاف في أصول الفقه للمتخصصين. وقد أراد المؤلف لكتابه أن يكون مؤلفا موسوعيا يجمع أقوال علماء الأصول الذين عاصروه أو سبقوه في مصنف واحد، فتراه يعرض في كل مسألة أقوال أهل العلم فيها مرتبة زمرا زمرا، وهو في ذلك كله يذكر المذاهب ويحققها ويوازن بين الأقوال ويذكر الأدلة وينتقدها ويذكر أسباب الخلاف، ثم هو بعد ذلك كله يصوب ويخطئ ويرجح ويقدم. وقد ابتدأ كتابه بمقدمة فيها أول من صنف في الأصول وبيان شرف علم الأصول، ثم تلاها بالمقدمات، حيث تكلم على الغرض من علم الأصول وحقيقته ومادته وموضوعه ومسائله، ومفهوم الدليل، ومفهوم النظر، ومسائل في العلم، والعقل، والحد، والقسمة، ثم تكلم على الأحكام، والتكليف؛ ثم شرع في مباحث الكتاب أي القرآن الكريم، وذكر فيها مباحث اللغة، ومباحث الاشتقاق، ومباحث الترادف، ومباحث المشترك، ومباحث الحقيقة والمجاز، وأدوات المعاني، والأمر، والنهي، ومباحث العام، والمطلق والمقيد، والظاهر والمؤول، ومباحث المجمل، والبيان والمبين، والمفهوم، وكتاب النسخ؛ ثم تكلم على مباحث السنة؛ ثم كتاب الإجماع؛ ثم كتاب القياس؛ ثم كتاب الأدلة المختلف فيها؛ ثم كتاب التعادل والتراجيح، ثم خاتمة الكتاب.والكتاب قال عنه السيوطي: "وبحره الذي هو في الأصول نهاية". ويمتاز البحر المحيط بعزو الأقوال إلى أصحابها على كثرة النقول فيه، كما أنه ينص على المراجع التي استفاد منها تلك الأقوال وهي مراجع كثيرة، ولعله لم يترك كتابا في علم الأصول أمكنه الوصول إليه إلا استفاد منه. ولم يكتف بالمؤلفات الأصولية بل تعداها إلى كل المراجع التي تعتمد عليها الأصول من كتب تفسير وشرح للحديث واللغة والعقيدة. وقد اعتنى المصنف بإيراد أقوالهم كما هي في كتبهم بحروفها في الغالب قصدا إلى حفظها، وأخذ قول كل إمام من كتابه مباشرة لا بالواسطة. وقد ذكر في مقدمته أسماء بعض الكتب التي رجع إليها، من كتب الشافعية والأحناف والمالكية والحنابلة والظاهرية والمعتزلة والشيعة، فبدأ بقوله: (فمن كتب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - "الرسالة"، و"اختلاف الحديث" و"أحكام القرآن"، ومواضع متفرقة من "الأم"، وشرح "الرسالة" للصيرفي وللقفال الشاشي وللجويني ولأبي الوليد النيسابوري، وكتاب "القياس" للمزني.. إلخ ما قال). ويتميز الكتاب بأسلوبه المرسل بعيدا عن تركيز المتون والتكلف أو التزيد في بعض الشروح، مما يمكن غير المتخصصين من الإفادة منه فيما لم يستغلق من مسائل أو يحتج إلى التوطئة والمقدمات التي لا تحصل إلا بالدرس والبحث. ومن مميزات الكتاب أنه يوضح كثيرا من مصطلحات أهل العلم في مؤلفاتهم، وبعد ذكر الأقوال يبين ما يبنى على المسألة وما يتفرع عنها، وإن كان هناك نقد أو تنبيه وضحه وبينه. والكتاب يندرج تحت كتب مدرسة الجمهور في أصول الفقه.وقد سلك المحققون طريقة "التحرير" كما أسموها لتمكين المشتغلين بالعلم من قطف ثماره بسهولة، وهي طريقه وسط بين طرق التحقيق تعتمد على عرض الكتاب من خلال مخطوطة واحدة متقنة مع الاستعانة بسائر النسخ للتدقيق والتكميل والتصحيح، دونما إثقال للقارئ بالهوامش والمقابلة بين النسخ، وهي مفيدة في المصنفات الكبيرة.