في هذا الكتاب القيم يهدي ماثيو كار المؤرخ والكاتب والإعلامي، البريطاني المولد، والذي ألف أيضا "الماكنة الجهنمية: تاريخ الإرهاب" الذي يرد فيه الإرهاب إلى جذوره التاريخية الأقدم، ويضعه في سياقه الدولي والثقافي الأوسع، يهدي كار بحثه إلى الكتاب والمؤرخين الكبار الذين تناولوا موضوع المورسكيين من قبله بفترة طويلة. ونرى في مقدمة المترجم - الكاتب الدكتور مصطفى قاسم صاحب الأعمال الفريدة والترجمات العديدة - بيان الحقبة التي عني بها الكتاب وهي حقبة ما بعد سقوط الممالك الأندلسية وما حدث لشعبها جراء ذلك. والمترجم يعترف بأن معرفته بالأندلس أو أيبيريا الإسلامية - قبل قراءة هذا الكتاب - كانت تقف عند عام 1492م، الذي سقطت فيه آخر ممالك المسلمين (غرناطة) ودانت للملكين الكاثوليكيين فيردناند الأراغوني وإيزابيلا القشتالية. لقد ظهرت في العقود الثلاثة الماضية بحوث كثيرة حول آخر من بقوا من أيبيريا الإسلامية، والذين أطلق عليهم الإسبان الاسم الازدرائي "المورسكيين" الذي يعني "الأندلسيين الصغار"، لكنها لم تفلت من "الغيتو الأكاديمي" كما فعل المؤلف بكتابه الرصين والمحايد والمتوازن والشامل، الذي يقدم قصة المورسكيين ومصيرهم المأساوي لجمهور القراء العام والمتخصص سواء.يبدأ الكتاب بعد المقدمة التي تحدد الهدف منه بمدخل "نهاية مآسي إسبانيا" يوجز تاريخ الأندلس منذ فتحها عام 711م على يد القائد المسلم طارق بن زياد، مطوفا بممالكها القوية وحواضرها الزاهرة وحروبها ضد الممالك النصرانية في أراغون وقشتالة، ثم يتوقف قليلا أمام سقوط غرناطة، فيعرض بإيجاز حروب الاستنزاف الطويلة التي سبقت حصار غرناطة عام 1491م. فلم تسقط غرناطة في حرب كبرى بين جيشين، بل سقطت عبر حروب كثيرة دامت عقدا من الزمن. وفي الحصار الأخير اضطر أهل غرناطة إلى أكل الخيول والكلاب والجرذان، حتى اضطر السلطان محمد الثاني إلى توقيع اتفاقية استسلام المملكة. وبذلك اكتملت عملية "استرداد" النصارى لأيبيريا، ووجد المسلمون في غرناطة أنفسهم خاضعين لحكام نصارى.وفي الباب الأول "الغزو للتنصير" يبين الكاتب كيف كان سقوط غرناطة إيذانا بانتهاء حالة القبول المتبادل "المشروط" بين أصحاب الأديان الثلاثة، والحرية الدينية "المقيدة" لأتباعها، وحل محلها نموذج التطهير الديني والشوفينية الثقافية في أيبيريا النصرانية. كما يعرض أحوال المسلمين في أيبيريا كلها بعد سقوط غرناطة، حيث بدأت ماكينة القمع والتنصير و"تفتيش الأرواح" الكاثوليكية تحول أنظارها من اليهود - بعد التخلص منهم - إلى المسلمين لإخضاعهم للنصرانية، وقد نجم عن ذلك ثورة المسلمين متحصنين بجبال البشرات، حيث ما لبثت أن أخمدت. ثم عملت محاكم التفتيش عملها. ويصور الباب الثاني "قطيع واحد.. راع واحد" حالة الدمج أو الاستيعاب بأطياف معانيها التي اقترنت بمراسيم "العفو" واضطرت المورسكيين إلى الحياة المزدوجة التي عاشوها للحفاظ على هويتهم باطنا وموافقة المجتمع ظاهرا.وقد تعاقب ملوك النصارى ومعهم المراسيم التعسفية، حيث يصور الباب الثالث "الكارثة" نهاية المورسكيين، حيث انتهى أمرهم إلى قرار الطرد في عهد فيليب الثالث سنة 1609م وتم اجتثاث المورسكيين من وطنهم إلى شمال إفريقيا. ثم يعدد المؤلف في فصل "الحساب" أشكال الخراب التي لحقت بإسبانيا جراء الطرد، ودخولها انحطاطها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الطويل، وكان القرن السادس عشر آخر عهد إسبانيا بالقوة والهيمنة، وظلت في تراجع مستمر حتى آخر عهد الدكتاتور فرانكو في أواخر القرن العشرين.ويبرز الكاتب في خاتمته "تحذير من قلب التاريخ" التماثل والتطابق بين خطاب إسبانيا القرن السادس عشر "الكاثوليكية" المعادي للإسلام والرافض للتعددية، وخطاب معاداة الإسلام ورفض الثقافة الإسلامية في الغرب المعاصر "العلماني".لقد أراد المؤلف أن يذكر القراء الغربيين في الأساس بمأساة شعب حوربت ثقافته بأبشع الأساليب، واجتث من أرضه أخيرا بسبب الاختلاف في الدين والثقافة، كي يبرز لهم أن التضييق على المسلمين وغيرهم من المهاجرين في أمور الدين والثقافة حاليا لا يختلف كثيرا عما كانت تفعله الحكومات الدينية في إسبانيا وأوربا فيما قبل العصر الحديث.ثم يقدم المترجم للقارئ العربي درسا مماثلا يتمثل - من وجهة نظره - في الخطاب الديني "الدعوي" الأحادي والإقصائي الذي فرض نفسه بعد "ثورات الربيع العربي"، ولا يخفى ما في هذا التشبيه من تعسف، إذا ما قورن بالرسالة الأصلية التي ابتغى المؤلف الغربي إيصالها لمجتمعه في حق المسلمين والإسلام. وهي رسالة قوية مدعمة بالتوثيق التاريخي والأسلوب السردي الرائق للأحداث، جديرة بأن يقرأها القارئ الغربي والشرقي على حد سواء.