أصل هذا الكتاب ما أملاه السرخسي (ت٤٨٣ه) على طلابه وهو في السجن بأوزجَند، وهو مع ذلك من أكبر كتب الفقه الحنفي وأضخمها، وهو مطبوع في ثلاثين جزءا. وقد أورد السرخسي في كتابه الكثير من الأحاديث النبوية والتي تميّز بها الكتاب، وأورد الكثير من أقوال الصحابة رضي الله عنهم وتابعيهم والأئمة من بعدهم وأقوال إمامه أبي حنيفة وشيوخه وتلاميذه، كل ذلك من خاطره من غير مطالعة كتاب ولا مراجعة تعليق، مما يدل على المقدرة العلمية الفائقة التي بلغها المؤلف. وقد وصل إلينا مبسوط السرخسي بحمده تعالى كاملا غير منقوص. وهو في حقيقته شرح لكتاب "الكافي في فروع الحنفية" للحاكم الشهيد أبي الفضل محمد بن أحمد المروزي (ت٣٣٤ه)، الذي هو مختصر لكتاب "المبسوط" للإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت١٨٩ه)، والذي هو أحد الكتب التي تسمى بكتب ظاهر الرواية لأنها رويت عن محمد بن الحسن برواية الثقات، وقد جمع فيه الإمام محمد بن الحسن ما فرعه الإمام أبو حنيفة. وعن السبب الذي دفعه لتصنيف المبسوط يقول السرخسي في مقدمة كتابه: "ثم إني رأيت في زماني بعض الإعراض عن الفقه من الطالبين لأسباب؛ فمنها قصور الهمم لبعضهم حتى اكتفوا بالخلافيات من المسائل الطوال، ومنها ترك النصيحة من بعض المدرسين بالتطويل عليهم بالنكات الطردية التي لا فقه تحتها، ومنها تطويل بعض المتكلمين بذكر ألفاظ الفلاسفة في شرح معاني الفقه وخلط حدود كلامهم بها". ويكفي لبيان أهمية الكتاب أن الحنفية يعتمدون عليه في القضاء الفتوى كونه أنه أوسع شروح "الكافي"، بل هو أوسع كتب الفقه الحنفي والفقه المقارن، يقول عنه الطرطوسي: "مبسوط السرخسي لا يُعمل بما يخالفه، ولا يُركَن إلا إليه، ولا يُفتى ولا يُعوَّل إلا عليه". ومما يزيد من أهمية الكتاب احتواؤه على عدد كبير من القواعد والضوابط الفقهية في مختلف أبواب الفقه، وعناية المؤلف بإيراد التفريعات وتخريج المسائل عليها. إن الهدف من المبسوط يتمثل في أن يقبل طلاب العلم على مدارسة الفقه بلغة سهلة واضحة مع العودة إلى كتب المتقدمين في المذهب. يقول المؤلف: "لا أزيد على المعنى المؤثر في بيان كل مسألة اكتفاء بما هو المعتمد في كل باب". وقد انتهج فيه مؤلفه منهجا وصفيا مقارنا حيث قارن فيه بين مذهبي الإمامين أبي حنيفة والشافعي مضافا إليهما أحيانا مذهب الإمام مالك، وذلك في المسائل الخلافية بينهما ومناقشتها والتعقيب عليها. وقد يرجح في المسألة مذهبا غير مذهب الحنفية، ويؤيد رأيه بالأدلة، وقد يجمع بين أدلة الحنفية وغيرهم جمعا حسنا ينفي التعارض بينهم. وقد استوعب المصنف في كتابه جميع أبواب الفقه بأسلوب سهل وعبارة واضحة، وبسط فيه الأحكام والأدلة والمناقشة. فإذا بدأ بشرح موضوع كتاب من كتبه فإنه يبين قبل كل شيء معاني المصطلحات الأساسية له لغة وشرعا مستدلا بالأحاديث والآثار، ومستنبطا الأحكام الفقهية منها، ومستشهدا بالأحاديث والآثار لبيان معاني المفردات اللغوية. ويشتمل الكتاب في محتواه على عدد من الكتب؛ مثل: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحيض والنفاس، والمناسك، والنكاح، والطلاق، والعتق، والمكاتب، والولاء، والأيمان، والحدود، والسير، والسرقة، والاستحسان، واللقيط، والإباق، والوديعة، والعارية، والصيد، والذبائح، والوقف، والهبة، والبيوع، والإجارات، وأدب القاضي، والشهادات، والدعوة، والوكالة، والكفالة، والصلح، والمزارعة والمضاربة، وغير ذلك من الكتب الفقهية الهامة مختتما بكتاب الرضاع. ويحيل السرخسي أحيانا إلى بعض مصنفات من سبقوه مثل كتاب الأمالي لأبي يوسف، والمجرد وشرح المجرد لابن شجاع، ومختصر أبي موسى، . ولئن كان الكتاب قد خُدم بجزء كامل في فهرسة مسائله والآيات والواردة فيه والأحاديث وأسماء الرجال، إلا أنه بحاجة إلى تحقيق الأحاديث والآثار وترجمة الرجال مما يحتاج إلى عزو وتدقيق. ومما يؤخذ على المصنف في باب الرواية اتهامه الصحابي الجليل أبا هريرة بالتساهل في باب الرواية وتقديم القياس على روايته عند ثبوت المخالفة بينهما، وذلك جريا على منهج فقهاء أهل الرأي.