يعد "المعيار المعرب، والجامع المغرب، عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب" من أشهر المدونات الفقهية في فقه النوازل التي قلَّ نظيرها في الفقه الإسلامي عموما والفقه المالكي خصوصا، والمعتمدة في الغرب الإسلامي لقرون متوالية. وقد حاز المعيار هذه المنزلة الرفيعة بين كتب النوازل وظل عمدة رجال الإفتاء لقرون متعددة بما حواه من فتاوى ونوازل متعددة طرأت فيما بين القرن الثالث والتاسع الهجريين (9 و15م). كما اشتمل على كم هائل من آراء فقهاء المالكية وإجاباتهم على فتاوى ووقائع كانت تحصل في عصرهم، وهذه المجموعة من الفتاوى والنوازل الفقهية، المتنوعنة المشارب، والمختلفة المصادر، والتي بلغت حوالي ألفين و مئتين وخمس وثلاثين فتوى، جمعت فتاوى واجتهادات فقهاء في أقطار معية من القيروان، وبجاية، وتلمسان، وقرطبة، وغرناطة، وسبتة، وفاس، ومراكش، وغيرها. مما يعطي للكتاب قيمة علمية كبيرة، ويجعله موسوعة ضخمة يمكن أن ينهل منها الدارسون ويستفيد منها الباحثون من عدة جوانب. قال مخلوف: "جمع فأوعى، وأتى على كثير من فتاوى المتقدمين والمتأخرين". وقريب منه وزيادة قول الجيدي: "جمع فيه فأوعى، وأحاط بالفقه المالكي أصولا وفروعا". إضافة إلى ذلك فإنه يُعد مصدرا مهما وسجلا حيا، يصور الحياة الاجتماعية والاقتصادية بصورة مباشرة ببلاد الأندلس، كما يمدنا بصورة عن تاريخ القضاء بها، وكيفية تسجيل النّوازل، والإجابة عنها، مما يعبر بصدق ووضوح عن واقع الحياة اليومية في المجتمع المغربي في العصر الإسلامي، فالملاحظ أنَّ الحوادث التي عاشها أهل المغرب الإسلامي قد اصطبغت بصبغة محلِّية، ممَّا دفع الفقهاء والقضاة وأهل الفتوى إلى الاجتهاد لاستنباط الأحكام والفتاوى الشَّرعية الملائمة وفق الكتاب والسنَّة والإجماع والقياس، وفي ضوء المذهب المالكي، وهو المذهب السَّائد في بلاد المغرب والأندلس. ومن محاسن هذا الكتاب أنه جمع الكثير من نصوص الكُتب الضائعة والفتاوى المفقودة للأندلسيين والمغاربة،حيث استمدَّ مادته الفقهية فيما يتعلَّق بفتاوى علماء فاس والأندلس من مكتبة تلميذه محمَّد الغرديس التَّغلبي. وفيما يتعلَّق بفتاوى أهل إفريقية -تونس والجزائر وتلمسان- كانت مصادره الأساس نوازل البرزلي، ونوازل مازونة، وأضاف إليهما ما تيسَّر من فتاوى أهل فاس والأندلس. وقد رتب المؤلف كتابه على الأبواب الفقهية؛ ليتسنى لمطالعه سهولة الوصول إلى لآلئ درره، وغرر مسائله. وطريقة المؤلف في كتابه ـ غالبا أنه يورد نص السؤال مصدرا له بقوله: «سئل…»، ويذكر الإمام المسْتَفْتى، ثم يُردفه بجوابه، مصدرا له بقوله: «فأجاب…»، ناقلا السؤال والجواب بنصَّيْهما. ولم يَكْتف في بعض الأحيان بإيراد السؤال وجوابه، بل يتدخل بالتعقيب أو التصحيح، أو الترجيح، أو التوضيح والإضافة، أو الاستدراك، أو غير ذلك. إن الأمانة العلمية للونشريسي لم تسمح له بالتصرف في لغة نصوص النوازل والمسائل الفقهية الواردة على الفقهاء للبث فيها، فأوردها كما هي من غير زيادة ولا نقصان. كما أنه يحرص على نسبة كل فتوى لصاحبها غالبا، كما أشار إلى ذلك في مقدمة كتابه بقوله: "وصرحت بأسماء المفتين إلا في اليسير النادر". وقيل فيه: إنه ضم بعض الفتاوى الضعيفة فقد قال عبد الرحمن بن السالك: «أما قول القائل: (فيه أجوبة ضعّفها بفيه)، لعله يريد أنه ينقل الأجوبة التي لم يُتفق على صحتها، وقد طالعناه من أوله إلى آخره، ورأيت فيه أجوبة فاسدة». ثم ذكر ثلاثة أجوبة، اثنان منها فاسدة، والثالث قال فيه: إنه لم يفهمه، ثم قال: «وبالجملة فهو كتاب لا مثل له، لكنه كما قال أبو إسحاق الشاطبي في موافقاته، قال فيها: إنها لا تنبغي مطالعتها إلا لمن تضلع في العلم. وكما قال بعض الأئمة في مختصر الشيخ خليل: إنه لم يؤلفه للمبتدئين، وكذلك المعيار، لا ينبغي أن يطالعه إلا المطالع المطلع على كتب المذهب جميعها».