يعتني هذا الكتاب بالجانب التأصيلي في التشريع الفقهي. وتأتي قيمته من مصنفه الذي كان ممن نصروا الدين بالحجة والبيان والسيف والسنان، إضافة إلى انتفاع عامة المنتسبين إلى المذاهب الفقهية من هذا الكتاب؛ فهو تقعيد لمسائل فقهية ولكن على طريقة جديدة؛ فهو رحمه الله لا يذكر القواعد الفقهية المعروفة في كتب القواعد، وإنما يذكر شيئا آخر أكثر نفعا في الطريقة العملية للتفقه. ومثال ذلك: عندما ذكر الأطعمة والأشربة ذكر أصلا مهما وهو أن مذهب أهل الحديث في هذا الأصل العظيم الجامع وسط بين مذهب العراقيين والحجازيين، ثم أخذ الاستدلال لذلك بذكره مفردات باب الأطعمة والأشربة، فهذا أصل في معرفة القول الوسط في هذا الباب. وهكذا يذكر الشيخ أصولا جامعة يستدل عليها بالأدلة التفصيلية من خلال مفردات المسائل الفقهية؛ فيقول مثلا: "وأصل آخر: وهو أن الكوفيين قد عرف تخفيفهم في العفو عن النجاسة... والشافعي بإزائهم في ذلك مثلا يعفو عن النجاسات إلا... ومالك متوسط في نوع النجاسة وفي قدرها... وأحمد كذلك فإنه متوسط في النجاسات". فهذا بيان لقواعد النجاسات وأقوى المذاهب فيه الذي وفق بنظر الشيخ إلى الصواب. ثم لا يكتفي بالحكم المجرد على أصول أقوال الأئمة بل يذكر أدلته على أن هذا الأصل هو الوسط بين الأصول. وهكذا يمضي الشيخ في شرح أصول أقوال الأئمة حسب الأبواب الفقهية مرجحا لما يراه أقرب تلك الأقوال للوسط والعدل الذي دلت عليه النصوص الشرعية. يُعد هذا الكتاب من غُرر كتب القواعد الفقهية التي ألّفها عالم مجتهد مطلق كما وصفه بذلك جمع من العلماء؛ وإن كانت أصوله العلمية مبنيّة على مذهب الحنابلة كما يُنبّه على ذلك دوما بقوله : (وقال أصحابنا) - يقصد الحنابلة -. وهذا الكتاب عدد فصوله: ثلاثون فصلا، وقد استغرقت فصول العبادات ثلث الكتاب، وفصول العقود والمعاملات والأحوال الشخصية ثلثا الكتاب. وقد استفاض الإمام ابن تيمية على عادته وأسهب وأطنب في قضايا كليّة، وقواعد مرعيّة، يذكرها ثم يُفصّل القول فيها، ويُسهب ثم يرجع للموضوع الذي انطلق منه قائلا: "الغرض هو التنبيه على القواعد". فيخطئ من ظن أن هذا الكتاب قصد منه بيان أقوال الفقهاء في المسائل الفقهية؛ فالشيخ كثيرا ما يقول بعد سرد بعض المسائل الفقهية: "مع ما في هذه المسائل من الكلام الدقيق الذي ليس هذا موضعه، إنما العرض التنبيه على قواعد الشريعة التي تعرفها القلوب الصحيحة". وما أنفع هذه الطريقة لطالب العلم؛ فهي تدله على معرفة الأصول الصحيحة للمسائل الفقهية، ولا شك أن هذا مطلب عزيز يتنافس فيه أهل الحق. كما أنها تنبه طالب العلم إلى صفات القول الوسط التي إذا تحققت فيه تقدم غيره من الأقوال والآراء؛ فيستطيع طالب الحق أن ينطلق من هذه القواعد إلى جميع العلوم الشرعية التي تحتاج إلى ذلك. ويُمكن الإشارة إلى أنّ فقه الإمام ابن تيمية فيه أصالة تامة ودراسة واعية للواقع والوقائع وإدراك ما يُفيد المجتمع من خلال فقه التوقع الذي يفيده في مستقبل حياتهم. وعلى أنّ الإمام ابن تيمية قد جوبه وهوجم من بعض الفقهاء الكبار الأجلاء، في بعض مسائل الفقه التي اختارها وخالف فيها المشهور من المذاهب الأربعة، إلاّ أنّه اختار أقوالا عليها الدليل النصي والعقلي وقال بها فئة من العلماء ممن سبقوه، ولم تُشتهر، أو كانت أقوالا مهجورة، فعرضها بقوّة واحتجّ لها أكثر مما احتجّ لها أصحابها، مثل مسألة الطلاق ثلاثا يجعلها واحدة، فقد اختار هذا القول وسُجن من أجله، واختار أنّ الحلف بالطلاق ليس طلاقا بل فيه كفّارة يمين، وغيرها من الأقوال التي رخّص فيها للأمّة، حين اعترتهم الكثير من الوهن والضعف والفساد، وعلم ما تؤديه هذه الأقوال من تضييق وتحريج وإشقاق عليهم، فكان رائدا من رُوّاد النظر الفقهي الذي تحتاجه الأمّة في عصره والعصور التي تليه.