يعد كتاب "الرسالة الفقهية" أو ما يعرف بـ"رسالة ابن أبي زيد القيرواني" من أشهر وأنفس ذخائر التراث المالكي في القرن الرابع الهجري. وتتمثل أهمية هذا المتن المختصر في كونه المصدر الثالث في المذهب بعد الموطأ والمدونة. ثم إن مصنفه ابن أبي زيد القيرواني ملقب بمالك الصغير (ت٣٨٦هـ) ويعد شيخ المالكية بالغرب الإسلامي. وقد أفصح المؤلف في المقدمة عما دعاه لتأليف متن رسالته فقال مخاطبا تلميذه الشيخ محرز بن خلف البكري التونسي المالكي (ت٤١٣هـ): "فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أمور الديانات مما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة وتعلمه الجوارح، وما يتعلق بالواجب من ذلك في السنن من مؤكدها ونوافلها ورغائبها وشيء من الآداب منها، وجمل من أصول الفقه، وفنونه على مذهب الإمام مالك بن أنس وطريقته". ويهدف المصنف أن يكون كتابه تعليميا للصبيان حيث يقول في نهاية رسالته: "قد أتينا على ما شرطنا أن نأتي به في كتابنا هذا مما ينتفع به إن شاء الله من رغب في تعليم ذلك من الصغار، ومن احتاج إليه من الكبار. وفيه ما يؤدي الجاهل إلى علم ما يعتقده من دينه ويعمل به من فرائضه، ويفهم كثيرا من أصول الرغائب والآداب". والكتيب على صغر حجمه واختصاره، حوى بين دفتيه أربعة آلاف مسألة، يجب على المكلف معرفتها ولا يسعه جهله؛ فالمصنف قد عقد في كتابه بابا كاملا سماه: باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات، ضمَّنه مسائل عقدية مهمة في التوحيد والإيمان. أعقب ذلك بمسائل فقهية من الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، والنكاح والبيوع، والوصايا، والمدبر، والمكاتب، والشفعة، والهبة، والصدقة، والحبس، والرهن، والعارية، والوديعة، واللقطة، وأحكام الدماء، والحدود، والأقضية، والشهادات، والأطعمة، وغيرها، بالإضافة إلى بعض الآداب الشرعية. وقد رتبها ابن أبي زيد على أربعة وأربعين بابا غير الباب المتعلق بالعقائد. وقد سلك المؤلف رحمه الله أسلوبا واضحا بالاعتماد على المشهور والراجح من المذهب دون ذكر الخلاف. وجنح إلى الاختصار المفيد حتى لا يتم الإخلال بالمقصود، مجتنبا بذلك الحشو والزيادة، ذلك أن الكتاب قد رام فيه مؤلفه تبصرة للمبتدئين. وقد تلقى العامة والخاصة الكتاب بالقبول، فتنافسوا في اقتنائه حتى رُوي أن أول نسخة منه بيعت ببغداد في حلقة أبي بكر الأبهري بوزنها ذهبا، كما رُوي أن بعض نسخه كتبت بالذهب، وليس هذا فحسب فقد انكب عليه المعلمون والمتعلمون بالقراءة والشرح والتعليق قديما وحديثا، بحيث اعتبرها القرافي من جملة خمسة كتب عكف عليها المالكيون شرقا وغربا. وقد ذكر الدكتور عمر الجيدي أن الأعمال التي أقميت حول الرسالة بلغت ثلاثا وخمسين عملا، وأشار إلى أن الشيخ حسن حسني عبد الوهاب ذكر أن عدد شروح الرسالة يفوق المائة، نخص منها بالذكر على سبيل المثال: شرح القاضي عبد الوهاب، وقد بيعت أول نسخة منه بمائة مثقال ذهبا، وممن شرحها أيضا يوسف بن عمر الأنفاسي، وقاسم بن عيسى بن ناجي، وأبو العباس القلشاني، وابن الفخار، وغيرهم. وقد لقي الكتاب اهتماما بليغا أيضا من لدن المستشرقين وترجموه إلى اللغتين الانجليزية والفرنسية.