رسالة ألفها هذا الإمام الجليل في ليلة واحدة نصيحة لأحد الأمراء الصالحين - وهو الأمير جمال الدين آقُش - سواء بطلب منه أو بمبادرة من ابن تيمية - رحمه الله – ويترجح أن ذلك كان بعد خروجه من السجن بمصر وهي نفس السنة التي تولى فيها هذا الأمير نيابة دمشق. وهذه الرسالة كما ذكر ابن تيمية تتضمن جوامع من السياسة الشرعية، تدور حول تفسير آيتين جامعتين وهما آيتي الأمر: الآية الأولى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها...) [النساء: 58] وهي متعلقة بأولي الأمر، والآية الثانية: (ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم...) [النساء: 59]، وهي متعلقة بالجنود والرعية. وكما أوضح ابن تيمية أن أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل هما جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة. وعليه فقد تضمنت رسالته فصلين رئيسين: الفصل الأول: أداء الأمانات، والفصل الثاني: الحكم بين الناس. أما الفصل الأول؛ فقد أوضح فيه أن الأمانات قسمان: الولايات والأموال، ففي القسم الأول: الولايات، تحدث عن خطرها والمعايير الشرعية لاختيار الأمثل لكل ولاية بحسبها من قوة وأمانة، وأن عدم اعتبار هذه المعايير إنما هو خيانة لله ولرسوله. وفي القسم الثاني من الولايات وهي الأموال تحدث عن الأعيان والديون الخاصة والعامة، وأوضح أن هذا القسم يتناول الولاة والرعية، يؤدي كل منهما إلى الآخر ما يجب أداؤه إليه، ثم تناول الأموال السلطانية وأحكامها ومصارفها وهي الغنيمة والصدقة والفيء. وأما الفصل الثاني؛ الحكم بين الناس وهو الذي يكون في الحدود والحقوق، فقد أوضح – رحمه الله - أنها قسمان: حدود الله وحقوق الله ليست لقوم معينين مثل حد قطاع الطريق والسراق والزناة وشاربي الخمر، والقسم الآخر ما كان لأناس معينين كالقصاص في القتل أو الجراح أو الأعراض (كاللعن أو الشتم)، وكذا حقوق الأبضاع وهي حق كل زوج على الآخر، ثم ختم بالحكم في الأموال من أمثال المواريث والمعاملات الشائعة ووجوب العدل فيها كلها دون التطرق لتفاصيل أحكامها. وختم هذا الفصل بل والكتاب بما يشبه النصيحة الجامعة لولي الأمر كي يستعين بها على القيام بالحكم بين الناس بالعدل والحق فتكلم عن المشورة وأنه لا غنى عنها لولي الأمر، فمع اختلاف الآراء يكون استخراجها واختيار أقربها للكتاب والسنة هو السَنن القويم. ثم ذكر خطر ومنزلة ولاية أمر الناس وأنها من أعظم واجبات الدين التي ينبغي لولي الأمر اتخاذها دينا وقربة لا جاها ورياسة. وعلى الرغم من كون المصنف لم يعمد إلى استيعاب مباحث هذا الموضوع إلا أن ابتناءه على آيتي الأمر جعل من مباحثه ومعالجته لموضوعات الكتاب بهذا الترتيب الفريد؛ عمدة في هذا الباب لا يقل بحال عن مصنفات الأحكام السلطانية - كما ذكر ذلك أحد المستشرقين الفرنسيين. ولا شك في أن منهج ابن تيمية متميز بالاستفاضة في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح، مع لطافة الاستدلال ودقته. إضافة إلى التعليل والتحليل اللذين يزداد بهما المؤمن إيمانا بحكمة الشارع العظيم ومقاصد الشريعة الغراء، وكذلك يزداد فقها في معاني النصوص، بشمول وسعة في الفهم، تمهد الطريق للقياس فيما اشتبه من الأمور الحادثة. ولا شك أن موضوع الكتاب من الموضوعات الهامة في واقعنا المعاصر، حيث وقع فيها اللغط من طوائف شتى بين من يُعمل آية الرعية والجند بغير ضوابط ويهمل آية أولي الأمر أو العكس، فلا غرو أن كان ضبط هذا الموضوع ضبطا شرعيا محكما يعد من الأهمية بمكان. وللكتاب طبعات كثيرة ولعل من أفضلها طبعة مجمع الفقه الإسلامي الصادرة عن دار عالم الفوائد بإشراف الشيخ بكر أبو زيد وتحقيق علي العمران، حيث قابلها على سبع مخطوطات واعتنى بدقة النص وإكمال النقص الواقع في الطبعات الأخرى، إضافة إلى حسن التقسيم والترتيب، والعناوين والفهارس. وللشيخ ابن عثيمين – رحمه الله - شرح صوتي للكتاب، تعرض له الشيخ أثناء تفسيره لسورة النساء، في سبعة عشر شريطا، وهو متوفر في صورة ملفات صوتية في الرابط: https://archive.org/details/Siyasa_Shariyya وكذلك مطبوع في مجلد واحد، وفي الرابط أدناه النسخة الإلكترونية منه: https://ia800206.us.archive.org/32/items/waq70128/70128.pdf