يندرج هذا الكتاب ضمن كتب الفقه المقارن. وتأتي أهميته كونه أحد كتب الخلاف الفقهي التي تنتمي إلى كتب المذهب المالكي والتي تنتهج أسلوب ترجيح القوي من الأدلة. إلى جانب كون مؤلفه ممن انتهت إليه أدوات الاجتهاد في عصره، فقد وُصف بأنه جمع كثيرا من العلوم النقلية والعقلية وبرع فيها. ويهدف الكتاب إلى أن يكون بداية لسلوك طريق الاجتهاد لمن أراد أن يربط الأحكام بأصولها، وأسباب الاختلاف فيها، وكفاية للمقتصد لمن أراد أن يعتدل في حكمه عليها. وقد صدَّر ابن رشد محتوى كتابه بمقدمة أصولية ضمَّنها بعض الطرق التي تُتلقّى منها الأحكام الشرعية مع التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف؛ لتكون بمثابة سلم الوصول إلى فهم مكنونات الكتاب. وقد استوعب في الكتاب الأبواب الفقهية بدءا من كتاب الطهارة، وانتهاء بكتاب الأقضية، وذلك في نحو واحد وسبعين كتابا. ويتجلى أسلوب تصنيفه في تقسيمه كل كتاب إلى فصول، وتحت كل فصل أبواب، وتحت كل باب مسائل، وفي كثير من الأحيان يكتفي بالأبواب والمسائل حسب طبيعة كل كتاب فيه وتشعب مسائله، فيقول مثلا: "القول المحيط بأصول هذه العبادة ينحصر في خمسة أبواب"، ثم يسردها سردا، ليبدأ بالتفصيل بعد ذلك فيقول مثلا: "ويتعلق بهذا الباب مما اختلفوا فيه سبع مسائل"، ويفصلها مسألة مسألة، مبتدئا في الغالب بالتأصيل لها من الكتاب أو السنة، أو الإجماع أو القياس، بقوله: "والأصل في هذا الباب" ثم يأتي بالدليل، مبينا أوجه الاتفاق فيما اتفق عليه العلماء، وأوجه الاختلاف فيما اختلفوا فيه، موردا مذهب كل فريق ومن قال به من العلماء، بدءا بالصحابة والتابعين، ثم الأئمة المجتهدين، مع النص على أدلة كل واحد منهم، ومأخذه في الاستدلال، وتخريج الأحكام، دون أن يُغفل سبب اختلافهم إما في فهم النص، أو في ثبوته. ثم إنه لا يكتفي بعرض المسائل والأقوال فيها، بل كثيرا ما يتدخل بالترجيح والتوفيق بينها حسب ما تحصَّل لديه من أدلة كل فريق، بعد تمحيصها والمقارنة بينها، وأحيانا يميل إلى مذهب الجمهور. ومن دقة منهجه -رحمه الله- أنه اتخذ لنفسه مصطلحات في كتابه، مبينا مراده بها، كقوله: "ومتى قلت ثابت -يعني للحديث- فإنما أعني ما أخرجه البخاري، أو مسلم، أو ما اجتمعا عليه"، وقوله: "إذا قلتُ: الجمهور، فالفقهاء الثلاثة معدودون فيهم، أعني مالكا والشافعي وأبا حنيفة". ومما امتاز به الكتاب -إلى جانب اعتماد الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس- الاستعانة بالقواعد الأصولية في ترجيح ما صح عنده من الأقوال مثل قاعدة: "الأصل براءة الذمة" التي عبر عنها بسقوط الحكم حتى يثبت الدليل، وقاعدة: "تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز"، وقاعدة: "حمل الكلام على الحقيقة، أولى من حمله على المجاز"، وكل ذلك في قالب لغوي واضح الأسلوب، خالٍ من التعقيد والحشو. أما عن المصادر التي اعتمد عليها المؤلف، فهو يقول: "وأكثر ما عولت فيما نقلته من نسبة هذه المذاهب إلى أربابها هو كتاب الاستذكار"، فإن هذا لا يعني أن الكتاب مجرد تلخيص له، بل إن الطابع الحجاجي الأصولي الذي يطغى عليه يشهد أن ابن رشد ليس مجرد ناقل للأقوال، ولكنه أيضا ناقد وممحص لها، فيرد ما يستحق الرد، ويقبل ما يستحق القبول معتمدا في ذلك ملكته العلمية الراسخة وتكوينه العلمي الجامع بين مختلف العلوم. وإذا كان الكتاب بهذه الأهمية فلا عجب أن ينقل عنه كبار العلماء بعده؛ لكونه مصدرا مهما من مصادر الفقه المقارن، وجامعا لأقوال المذاهب الفقهية؛ فقد نقل عنه القرافي في "الفروق"، والنووي في "المجموع"، وابن حجر في "فتح الباري"، والحطاب في "مواهب الجليل"، والشوكاني في "نيل الأوطار" وغيرهم كثير . ومن عناية العلماء المتأخرين بهذا الكتاب القيم تصديهم لتخريج أحاديثه، كما صنع الحافظ أبو الفيض أحمد بن الصديق الغماري (ت١٣٨٠هـ) في كتابه الحافل "الهداية في تخريج أحاديث البداية"، طبع بتحقيق يوسف بن عبد الرحمن المرعشلي، و عدنان علي شلاَّق، نشر عالم الكتب ببيروت، ١٤٠٧هـ/١٩٨٧م، والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل عبد اللطيف (ت١٤١٦هـ) في كتابه "طريق الرشد إلى تخريج أحاديث بداية ابن رشد"، طبع بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سنة ١٣٩٧هـ.