صنف الخطيب البغدادي - وهو الحافظ المتقن المؤرخ صاحب التاريخ المشهور تاريخ بغداد - هذا الكتاب نصيحة لطائفتين، لأهل الحديث، ولأهل الرأي. ذلك أن أكثر كتبة الحديث في زمانه ضعفت بصيرتهم بما جمعوه، وابتعدوا عن معرفة فقه ما كتبوه وما سمعوه، ومنعوا نفوسهم عن محاضرة الفقهاء، وذموا مستعملي القياس من العلماء، وذلك لما سمعوه من الأحاديث التي تعلق بها أهل الظاهر في ذم الرأي والنهي عنه والتحذير منه، فلم يميزوا بين محمود الرأي ومذمومه، بل سبق إلى نفوسهم أنه محظور على عمومه، ثم قلدوا مستعملي الرأي في نوازلهم، وعولوا فيها على أقوالهم ومذاهبهم، فنقضوا بذلك ما أحلوه، واستحلوا ما حرموه. أما أهل الرأي فجل ما يحتجون به من الأخبار واهية الأصل، ضعيفة عند العلماء بالنقل، فأظهر أهل الحديث فسادها، فشق عليهم إنكارهم إياها، وهم قد جعلوها عمدتهم، واتخذوها عدتهم، وكان فيها أكثر النصرة لمذاهبهم، فغير مستنكر لذلك أن يطعن أهل الرأي على أهل الحديث، وأن يرفضوا نصيحتهم؛ لأنهم قد هدموا ما شيدوه، وأبطلوا ما راموه وقصدوه. ولأجل هذا السبب الموجب لتباعد ما بين هاتين الطائفتين، رسم الخطيب في هذا الكتاب لصاحب الحديث خاصة ولغيره عامة ما يقوله نصيحة له، وغيرة عليه.وقد رتب المصنف موضوعات كتابه على أبواب كعادة المصنفين في زمانه، حيث بدأ بـ "باب ذكر الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل التفقه والأمر به والحث عليه والترغيب فيه - قوله عليه السلام: من يرد الله به خيرا يفقهه الدين" وأورد فيه خمسة وعشرين أثرا، ثم "ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" وأتبعه بأبواب مماثلة في فضل الفقه والعلم وأهلهما، ثم شرع في موضوع الكتاب فذكر أقسام الحكم الشرعي باختصار، ثم ذكر مقصود الكتاب في "باب بيان أصول الفقه أصول الفقه: الأدلة التي يبنى عليها الفقه، وهي: كتاب الله سبحانه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مما حفظ عنه خطابا وفعلا وإقرارا، وإجماع الأمة من أهل الاجتهاد، فهي ثلاثة أصول، ونحن نذكر كل أصل منها على التفصيل، وكيف يرتب بعضها على بعض، ثم نذكر القياس، وما يجوز منه وما لا يجوز". وهو الترتيب المعروف عند الأصوليين، وعند كلامه على الكتاب والسنة ذكر طرق الاستنباط، ودلالات الألفاظ، والحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، وعند كلامه على الإجماع ذكر قول الواحد من الصحابة بعد ذكره لوجوب اتباع ما عليه الصحابة من إجماع وخلاف، ثم تكلم على استصحاب الحال، ثم ذكر ترتيب استعمال الأدلة واستخراجها، ثم تكلم على الاجتهاد والتقليد والفتوى. وكان قد افتتح كتابه بالكلام على التفقه في الدين، ثم بالكلام على المسائل الأصولية على الترتيب السابق، ثم ختم الكتاب بذكر أخلاق الفقيه وآدابه. فالكتاب إذن له موضوعان رئيسان: أدب التفقه، وأصول الفقه. وقد اعتنى المؤلف بالتعريفات والتقاسيم في بداية كل باب، واعتنى بتحرير كثير من المسائل الأصولية وأدلى فيها برأيه، وكثيرا ما يذكر الرأي المخالف وأدلته ويجيب عنها. ويمتاز الكتاب بتخصيصه ما يقارب ثلثه للكلام على فضل الفقه والتفقه في الدين، وأخلاق الفقيه وآدابه.2 كما أكثر المصنف من النقل عن الإمام الشافعي واقتفى آراءه. وقد احتج الخطيب بالكثير من الآيات والأحاديث والآثار المروية - مع ذكر الإسناد - عن الصحابة والتابعين والأئمة في تثبيت القواعد الأصولية، والاحتجاج للأدلة الشرعية، وهو مسلك أهل السنة في تقرير أصول الفقه، وهو عزيز في الكتب الأصولية. وقد عُدّ الكتاب نموذجا لـ "أصول فقه المحدثين"، خاصة وأن المؤلف كما بينا أراد بتأليف هذا الكتاب التقريب بين المحدثين والفقهاء، والرفع من قيمة الفقه وشأن الفقهاء، وفي الوقت نفسه الإرشاد إلى أهمية معرفة الحديث وشرف أهله.وأخيرا فإن المؤلف - على نمط تصنيف السلف من غير تكلف - يتكلم على مسائل الباب الواحد، وقد لا يفصل بين المسألة والأخرى بفاصل يفيد الانتهاء أو الانتقال.