كتاب "تقريب الوصول إلى علم الأصول" من تأليف الإمام الشهيد أبي القاسم محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن جُزَيّ الكلبي الغرناطي، وهو من علماء القرن الثامن الهجري، وقد قام الدكتور محمد المختار الشنقيطي بدراسة وتحقيق هذا الكتاب، وبذل في ذلك جهدا مباركا، وهو ما يفسر كِبر حجم النسخة التي بين أيدينا مقارنة بالنسخ الأخرى، وقد أشار المحقق إلى إجماع كل من تعرض للكتاب بالذكر على اسم الكتاب ونسبته إلى مؤلفه، والمؤلف مشهور بحسن التقسيم والترتيب والتبويب، وسهولة العبارة، وقد أشار المصنف في مطلع كتابه إلى أهمية علم أصول الفقه، فقال: (العلوم على ثلاثة أضرب: علم عقلي، وعلم نقلي، وعلم يأخذ من العقل والنقل بطرف، فلذلك أشرف في الشرف على أعلى شرف، وهو علم أصول الفقه الذي امتزج به المعقول بالمنقول، واشتد على النظر في الدليل والمدلول، وإنه لنعم العون على فهم كتاب اللَّه وسنة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وناهيك من علم يرتقي الناظر فيه عن حضيض رتبة المقلدين، إلى رفيع درجات المجتهدين، وأقل أحواله أن يعرف وجوه الترجيح فيفرقه بين الراجح والمرجوح، ويميز بين السقيم والصحيح)، كما أشار إلى باعثه على تصنيفه، فقال: (وإني أحببت أن يضرب ابني محمد -أسعده اللَّه- في هذا العلم بسهمه، فصنفت هذا الكتاب برسمه ورسمته بوسمه، لينشط لدرسه وفهمه)، كما أشار إلى منهجه في التصنيف فقال: (وعوّلت فيه على الاختصار والتقريب، مع حسن الترتيب والتهذيب، وقسمته إلى خمسة فنون .. وجعلت في كل فن عشرة أبواب، فاحتوى الكتاب على خمسين بابًا)، وقد أضاف المحقق أن من منهج المصنف أنه قد يقسم الباب إلى فصول، وقد يقسم الفصل إلى ضروب أو فروع، وقد يذكر بعد الباب أو الفصل كلمة تكميل أو تنبيه أو فائدة أو قانون أو تلخيص أو إلحاق أو بيان، كما أنه لم يقتصر على ذكر أقوال المالكية في الموضوعات التي يتناولها، بل يورد آراء الشافعية والحنفية كثيرا، وآراء الحنابلة والظاهرية والأشعرية والمعتزلة نادرا، بالإضافة إلى أنه لم يستقص الأقوال في الموضوعات، ولكنه يكتفي بالإشارة إلى أن فيها خلافا بعد ذكره لرأي المالكية فيها، كما أنه لا يذكر ثمرة الخلاف في الغالب في المسائل الخلافية، ولم يكثر من التمثيل للمسائل الأصولية، وإذا مثّل فإنه لا يوجه المثال في الغالب. والكتاب قسمه مؤلفه إلى خطبة ومقدمة وخمسة فنون، أما الخطبة فذكر فيها بعد الثناء تقسيم العلوم إلى ثلاثة أضرب، وبين منزلة علم أصول الفقه وفائدته، والباعث على التأليف، ومنهجه في الكتاب وتقسيمه له. أما المقدمة فقد اشتملت على فصلين، أحدهما في تعريف أصول الفقه، وثانيهما في وجه تقسيم الكتاب إلى الفنون الخمسة. والفن الأول من علم الأصول في المعارف العقلية، وفيه عشرة أبواب: الأول في مدارك العلوم، والثاني فيما يوصل إلى التصور، والثالث فيما يوصل إلى التصديق، والرابع في أسماء الألفاظ، والخامس في الدلالة، والسادس في الفرق بين الجزئي والكلي، والكل والجزء، والكلية والجزئية، والسابع في نسبة بعض الحقيقة من بعض، والثامن في أنواع الحجج العقلية، والتاسع في أنواع القياس المنطقي، والعاشر في البرهان. والفن الثاني من علم الأصول في المعارف اللغوية، وفيه عشرة أبواب: الأول في الوضع والاستعمال والحمل، والثاني في الحقيقة والمجاز، والثالث في العموم والخصوص، والرابع في الاستثناء، والخامس في المطلق والمقيد، والسادس في النص والظاهر والمؤول والمبين، والسابع في لحن الخطاب وفحواه ودليله، والثامن في تعارض مقتضيات الألفاظ، والتاسع في الأمر والنهي، والعاشر في معاني حروف يحتاج إليها الفقيه، وجرت عادة الأصوليين بذكرها. والفن الثالث من علم الأصول في الأحكام الشرعية، وفيه عشرة أبواب: الأول في الأحكام، وتناول فيه الأحكام الخمسة، والثاني في أسماء هذه الأحكام ودرجاتها، والثالث في الواجب الموسع والمخير وغيرهما، والرابع في شروط التكليف، والخامس في أوصاف العبادة، والسادس في الحسن والقبح، والسابع في فيما تتوقف عليه الأحكام، وتناول فيه السبب والشرط والمانع، والثامن في أقسام الحقوق، والتاسع في الوسائل، وتناول فيه تقسيم الأحكام إلى مقاصد ووسائل، والعاشر في تصرفات المكلفين في الأعيان. والفن الرابع من علم الأصول في أدلة الأحكام، وفيه عشرة أبواب: الأول في حصر الأدلة، وتناول فيه الأدلة المتفق عليها والمختلف فيها، والثاني في الكتاب العزيز، والثالث في السنة، والرابع في الخبر، والخامس في النسخ، والسادس في الإجماع، والسابع في القياس، والثامن في الاستدلال، والتاسع في الاستصحاب، والبراءة الأصلية، والأخذ بالأخف، والاستقراء، والاستحسان، والعاشر في العوائد، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع، والعصمة. والفن الخامس في الاجتهاد، والتقليد، والفتوى، والتعارض، والترجيح، وفيه عشرة أبواب: الأول في الاجتهاد، والثاني في شروط المجتهد، والثالث في تصريف المجتهدين في الأحكام، والرابع في التقليد، والخامس في الفتوى والنظر في صفة المفتي والمستفتي، والسادس في تعارض الأدلة، والسابع في الترجيح، والثامن في ترجيح الأخبار، والتاسع في ترجيحات الأقيسة، والعاشر في أسباب الخلاف بين المجتهدين، وذكر أنه انفرد بذكره، وتناول فيه ستة عشر سببا. وقد أشار المصنف إلى وجه تقسيم هذا الكتاب إلى الفنون الخمسة المذكورة، فقال: (وذلك أن المقصود الأول إنما هو معرفة الأحكام الشرعية، فهذا الفن هو المطلوب لنفسه، وإنما احتيج إلى سائر الفنون من أجله، ولما كان ثبوت الأحكام متوقفًا على الأدلة احتيج إلى فن الأدلة، ولما كان استنباط الأحكام من الأدلة متوقفًا على شروط الاجتهاد احتيج إلى فن في الأدلة وشروطه، وكيفيته من الترجيح وغيره، ثم إن ذلك كله يتوقف على أدوات يحتاج إليها في فهمه والتصرف فيه، وهي له آلات، وهي على نوعين: منها ما يرجع إلى المعاني وهو من المعارف العقلية. ومنها ما يرجع إلى الألفاظ وهي فن المعارف اللغوية، فانقسم العلم بالضرورة إلى تلك الفنون الخمسة، فقسمنا كتابنا هذا إليها، وقدمنا الأدوات، لأنه لا يتوصل إلى فهم ما سواها إلا بعد فهمها. ومنها ما يرجع إلى الألفاظ وهي فن المعارف اللغوية، فانقسم العلم بالضرورة إلى تلك الفنون الخمسة، فقسمنا كتابنا هذا إليها، وقدمنا الأدوات، لأنه لا يتوصل إلى فهم ما سواها إلا بعد فهمها). وقد أشار المحقق إلى أن المؤلف قد انفرد بترتيبه للكتاب، فيما وقف عليه، فإن الأصوليين إما أن يؤخروا مباحث الأحكام الشرعية باعتبار أنها ثمرة، وإما أن يقدموها باعتبار أنها من مقدمات الأصول، والمؤلف نهج منهجا في هذا مبتكرا، كما انفرد كذلك بذكره أسباب الخلاف بين المجتهدين، وهو ما ذكره المؤلف بقوله (على أن هذا الباب انفردنا بذكره لعظم فائدته، ولم يذكره أهل الأصول في كتبهم).